سورة الفتح - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


{المخلفون من الأعراب} قال مجاهد وغيره: هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل، فإنهم في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىعمرته عام الحديبية رأوا أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة، وهم الأحابيش، ولم يكن تمكن إيمان أولئك الأعراب المجاورين للمدينة فقعدوا عن النبي عليه السلام وتخلفوا، وقالوا لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم الله في هذه الآية، وأعلم محمد بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، فكان كذلك، قالوا: شغلتنا الأموال والأهلون فاستغفر لنا، وهذا منهم خبث وإبطال، فلذلك قال تعالى: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} قال الرماني: لا يقال أعرابي إلا لأهل البوادي خاصة، ثم قال لنبيه عليه السلام {قل} لهم: {فمن يملك لكم من الله شيئاً} أي من يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءاً.
وقرأ جمهور القراء: {إن أراد بكم ضَراً} بفتح الضاد. وقرأ حمزة والكسائي: ضُراً بالضم، ورجحها أبو علي وهما لغتان. وفي مصحف ابن مسعود. {إن أراد بكم سوءاً}. ثم رد عليهم بقوله: {بل كان الله بما تعملون خبيراً}، ثم فسر لهم العلة التي تخلفوا من أجلها بقوله: {بل ظننتم} الآية، وفي قراءة عبد الله: {إلى أهلهم} بغير ياء. و: {بوراً} معناه: فاسدين هلكى بسبب فسادهم. والبوار: الهلاك. وبارت السلعة، مأخوذ من هذا. وبور: يوصف به الجمع والإفراد، ومنه قول ابن الزبعرى: [الخفيف]
يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بور
والبور في لغة أزد عمان: الفاسد، ومنه قول أبي الدرداء: فأصبح ما جمعوا بوراً، أي فاسداً ذاهباً، ومنه قول حسان بن ثابت:
لا ينفع الطول من نوك القلوب وقد *** يهدي الإله سبيل المعشر البور
وقال الطبري في قوله تعالى: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} يعني به قولهم: {فاستغفر لنا} لأنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم، قال وقوله تعالى: {قل فمن يملك} الآية، معناه: وما ينفعكم استغفاري، وهل أملك لكم شيئاً والله قد أراد ضركم بسبب معصيتكم كما لا أملك إن أراد بكم النفع في أموالكم وأهليكم.


لما قال لهم: {وكنتم قوماً بوراً} [الفتح: 12] توعدهم بعد ذلك بقوله: {ومن لم يؤمن بالله ورسوله} الآية، وأنتم هكذا فأنتم ممن أعدت لهم السعير، وهي النار المؤججة. والمسعر: ما يحرك به النار، ومنه قوله عليه السلام: «ويل من مسعر حرب». ثم رجى بقوله تعالى: {ولله ملك السماوات والأرض}، الآية: لأن القوم لم يكونوا مجاهرين بالكفر، فلذلك جاء وعيدهم وتوبيخهم ممزوجاً فيه بعض الإمهال والترجية، لأن الله تعالى قد كان علم منهم أنهم سيؤمنون، ثم إن الله تعالى أمر نبيه على ما روي بغزو خيبر ووعده بفتحها، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود وهم عدو مستضعف، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا والغنيمة فكان كذلك.
وقوله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} معناه: يريدون أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر. وقال عبد الله بن زيد بن أسلم {كلام الله} قوله تعالى: {قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً} [التوبة: 83] وهذا قول ضعيف، لأن هذه الآية نزلت في رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، وهذا في آخر عمره، وآية هذه السورة نزلت سنة الحديبية، وأيضاً فقد غزت جهينة ومزينة بعد هذه المدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فضلهم رسول الله بعد ذلك على تميم وغطفان وغيرهم من العرب، الحديث المشهور فأمره الله تعالى أن يقول لهم في هذه الغزوة إلى خيبر: {لن تتبعونا} وخص الله بها أهل الحديبية.
وقوله تعالى: {كذلكم قال الله من قبل} يريد وعده قبل باختصاصهم بها، وقول الأعراب: {بل تحسدوننا} معناه: بل يعز عليكم أن نصيب مغنماً ومالاً، فرد الله على هذه المقالة بقوله: {بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً} أي لا يفقهون من الأمور مواضع الرشد، وذلك هو الذي خلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ذلك سبباً إلى منعهم من غزوة خيبر.
وقرأ أبو حيوة: {تحسِدوننا} بكسر السين. وقرأ الجمهور من القراء: {كلام} قال أبو علي: هو أخص بما كان مفيداً حديثاً. وقرأ الكسائي وحمزة وابن مسعود وطلحة وابن وثاب: {كلم} والمعنى فيهما متقارب.


أمر الله نبيه عليه السلام بالتقدمة إلى هؤلاء المخلفين بأنهم سيؤمرون بقتال عدو بئيس، وهذا يدل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام، وإلا فلم يكونوا أهلاً لهذا الأمر، واختلف الناس من القوم المشار إليهم في قوله: {إلى قوم أولي بأس شديد} فقال عكرمة وابن جبير وقتادة: هم هوازن ومن حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين.
قال القاضي أبو محمد: ويندرج في هذا القول عندي من حورب وغلب في فتح مكة.
وقال كعب: هم الروم الذين خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة. وقال الزهري والكلبي: هم أهل الردة وبنو حنيفة باليمامة.
وقال منذر بن سعيد: يتركب على هذا القول أن الآية مؤذنة بخلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يريد لما كشف الغيب أنهما دعوا إلى قتال أهل الردة. وحكى الثعلبي عن رافع بن خديج أنه قال: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم، حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا. وقال ابن عباس وابن أبي ليلى: هم الفرس. وقال الحسن: هم فارس والروم. وقال أبو هريرة: هم قوم لم يأتوا بعد، والقولان الأولان حسنان، لأنهما الذي كشف الغيب وباقيهما ضعيف. وقال منذر بن سعيد: رفع الله في هذه الجزية، وليس إلا القتال أو الإسلام، وهذا لا يوجد إلا في أهل الردة.
قال القاضي أبو محمد: وهو من حورب في فتح مكة. وقرأ الجمهور من القراء: {أو يسلمون} على القطع، أي أو هم يسلمون دون حرب. وقرأ أبيّ بن كعب فيما حكى الكسائي: {أو يسلموا} بنصب الفعل على تقدير: أو يكون أن يسلموا، ومثله من الشعر قول امرئ القيس: [الطويل]
فقلت له لا تبك عيناك إنما *** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
يروى: نموتَ بالنصب. ونموتُ بالرفع، فالنصب على تقدير: أو يكون أن نموت، والرفع على القطع، أو نحن نموت.
وقوله: {فإن تطيعوا} معناه: فيما تدعون إليه، والعذاب الذي توعدهم: يحتمل أن يريد به عذاب الدنيا، وأما عذاب الآخرة فبين فيه.

1 | 2 | 3 | 4